الأربعاء، 6 أكتوبر 2010

من أنا ؟؟؟

حامِلاً جهاز اللابتوب وحقيبة ظهره الزرقاء ، مرتديا ذات القبعة البيريه التي جاء بها العام الماضي .  متجولا بعينيه يلتهم السًابلة باحثاً عن شئ لا يدركه في أعينهم حينما جاء صوت صديقه  إياد : حمد لله على السلامة ، نورت البلد .
إبتسم كمن حصل علي جائزة : أووف . ما هذه الزحمة و الشمس الحارقة تلهب وجهك من باب الطائرة وكأنها تقول لك أنت في الخرطوم .
ضحِك صديقه : أحلى شمس والله بس طول بالك .
كان قد قرر منذ رجوعه في العام الماضي أن يأتي مرة أخرى لا ليعود بل ليبقى كان العام الماضي سيئاً ، فهو لأول مرة في حياته يرى هذه البقعة من الخريطة ربما تمنى كثيراً أن يأتي إلى الخرطوم ليرى معالمها ويختلط بأناسها ويتمرغ في ترابها ، إلا أن رحلته الأولى كانت فاشلة و مُحبِطة بكل المقاييس .
إنتقلت أسرة والدته إلي الولايات المتحدة الأمريكية منذ عام 1969 م و أستقروا مدينة سياتل ، بعد أن طلب جِده اللجوء السياسي ناقماً على ما حَدث له في ربوع وطنه من مشاكل مالية و سياسية ، كانت حينها أمينة إبنته الكُبرى في الثالثة من عمرها .
وفي هذه المدينة أنهت أمه دِراستها بالمدرسة العُليا ، كان والِداها سُعداء بتفوقها رُغم أن والدها رفض أن يسمح  لها بالدراسة في جامعة شيكاغو لِصُغر سِنها و خوفه من أن لا تستطيع الإعتماد على نفسها .
تعرفت على معتصم الطبيب السوداني الذي جاء ليُعادل شهادته ويفلِت من سنوات إنتظار توزيعه لممارسة الإمتياز و التخصُص الشبه مستحيل نسبة إلى ظرفه المادي السئ .
أحبته فتزوجا ، لم يخطر لهما العودة إلي السودان ، ومضت السنوات بهم .
كبُر كريم وكان أصغر إخوته الثلاث و عاش كل حياته في مدينة سياتل، التي يطلق عليها لقب "المدينة الزمردية" و هي أكبر مدن المنطقة الشمالية الغربية الأميركية الواقعة على ساحل المحيط الهادئ ، و هي المدينة التي عُرِفت بأنها المدينة التي توجد فيها أدنى نسبة من الأمية في الولايات المتحدة .
كان يظن طِوال عمره أنه مجرد أمريكي مُلون برُغم لونه الضارب إلي البياض ، إلا أن إستدارة أنفه وشعره الملفوف وعينيه الواسعتين كانا يُنبِأن دائماً بأنه سوداني لا غير . الحكايات التي كان يسمعها من أبناء خالِه المقيمين بمدينة تاكوما التي تبعد عنهم 40 دقيقة بالسيارة ، كانوا يمضون إجازاتهم السنوية بأرض السودان مع أمهم جعلته يتوق لرؤية هذا الوطن الهُلامي الذي لم يسمع عنه الكثير و لم يره أبداً حَيره تنصل أسرته الغريب و عدم رغبتهم في العودة أو السفر إلى موطنهم الأول ، برغم ذكريات والده التي تأسره ، بينما كانت أمه لا تتوق لمكان كان سبباً في إقصائهم عن ممتلكاتهم و أهلهم . كل ذلك أحدث شرخاً في شخصيته شعر بغربته عن نفسه و عن إخوته و والديه الغارقين في خضم الحياة .
أصبحت قمة جبل رينير ( Mount Rainier ) ذلك الجبل الجميل البديع الذي بإمكانك رؤيته من أي مكان في سياتل و الشلالات الكثيرة المنحدرة منه و البحيرات التي تلفه صديقته الحميمة ، يُفِرغ شحناته مع موسيقى الغرنج ( الروك البديل ) أو يُنَفِس عن وِحدته في المضي إلى غاليري هنري للفن ، ومتحف سياتل للفن ، أوحديقة المنحوتات الأولمبية ، بحثاً عن رِفقة يحبها .
درس إدارة الأعمال في هاي لاين كوميونيتي كولج على بعد 25 دقيقة جنوبي مدينته في ضاحية دي موان ، ليتعرف هناك على إياد الشاب الثري الذي جاء من السودان ليدرِس و  أقرانهم من الجالية السودانية محاولاً التقرب منهم خصوصاً زميلتهم هيفاء المقيمة مع أسرتها في مدينة فانكوفر الجميلة ، كانت  تدعوه و زملائها أيام الجُمعة لممارسة الطقوس السودانية البحتة في هذا اليوم بعد صلاة الجُمعة يديرون إسطوانات  الفنان محمد وردي ويدندنون معه حتى إستطاع أن يحفظ معهم أغنية ( أحبك حقيقة وأحبك ملاذ ) المُفردة التي لم يستطع إيجاد مُرادِفة لها قريبة في ذهنه سوى House ، تعلم أكل العصيدة وشرب عصيري الحِلو مُر والتبلدي و الآبري مستسيغاً إياهم بفرحة صغير يُعطى شيئاً جميلاً و غريباُ ، برُغم ظنه في البدء أن عصير الآبري مجرد قطع مناديل ورق مُسمياً إياه عصير كلينيكس ( لشكله الأشبه بورق مقطع يُخلط بالماء و السُكر ) !
كانت أسرته قد محَت كل مالهُ صِلة بِجذورِهم ، رُبما لرفضِهم أن يكونوا غير أمريكيين . أمه تعيش حياة سيدة أميركية مُرفهة  تعتني بكلب شيواو أبيض وتُمرِغ اليوم في تنزيهه ! وأبيه متفرغ تماماً لأولويات واجبه المهني ، إخوتِه كلُُ في عالمِه الخاص . كان قد قرر ترك المنزل قبل دخوله الجامعة إبان تعرفه على جينيفر صديقته الجميلة التي أحَبت فيه هذا اللون الغريب المائل إلي سُمرة مُحببة .
أخبرته أنها تدرِس وتعمل بدوام جزئي تمتلِك شِقة ورثتها من والدتها المتوفية ، بينما يقيم و الدها مع زوجته الجديدة ، لم يكن هناك أكثر من هذا الإغراء ليَحزِم أمتعته وينتقل إليها .
أحبها ولكنه طالما شعر برفضِه لهذه العلاقة الغريبة كانت تختلج في دواخله أحاسيس غريبة ، خصوصاً بعد أن رأى زوجة أخ هيفاء التي جاءت من الخرطوم حديثاً مرتدية ثوباً سودانياً ( التوب ) ، بينما ينسدل شعرها الأسود الجميل بأناقة ، حتى رائحتها السودانية المميزة ( نسبة إلى العطور السودانية التقليدية ) التي أخذته إلى إحساس آخر بعيداً عن كل ما جذبه إلي جنيفر .
معها شعر بأنه أمريكي يُعاشِر أميركية ويمارس معها المعايشة المعرُوفة بال roommate التي ربما ستؤول إلى زواج ، إلا أنه يرفُض في دواخله هذه العلاقة الغير شرعية . تمنى أن يحظى بإمرأة يكون هو أول من يعاشرها وأول من يُحِبها .
شعر بالحيرة كل أوراقه الثبوتية ورقم بيته وحبيبته يؤكِدون أنه أمريكي. وكل حنينه وشعوره و لإيمانه يؤكدون أنه سوداني .
شعَر بالهُوة التي هو فيها ، مضى إلي شيخ عبد الرحمن ذلك الشيخ الأردني الذي إلتقاه كثيراً في المركز الإسلامي حينما كان يذهب لِصلاة الجُمعة ، حكى له عن شعوره الدائم بالهُوة التي تفصل بينه و بين أحاسيسه المُتضاربة و شعوره الدائم بالرَهبة ، فطلب الشيخ منه أن يؤدي صلاته بِخِشُوع وإنتظام وأن ينتظِر قلبه الذي سيدله . لم يكن هناك ما ينبئ بهذا الوطن سِوى رؤية أرضِه الشَاسِعة في خريطة أفريقيا .
و سافر إلى السودان .....
كان بيت جديه اللذين رحلا قبل أن يراهما مُترامي الأطراف متآكل الزوايا برُغم وجوده في أرقى أحياء العاصمة ، قام بترميمه بما يستطيع ، و إيجار نِصفِه الآخر ليساعد عائده في صيانة الأركان ، ترميم الحديقة ، تنظيف المسبح الذي إهترأت أطرافه !!
و إعادة تشغيل الإضاءة المحروقة .
 كان العمل في هذا البيت العتيق ممتع بقدر ما هو حُلم . حاول في البدء تحديث أرض زراعية مترامية على بعد عدة كيلو مترات من العاصمة تركها جِداه إلا أن التعامل مع المُزارعين البسيطين والآلات الغير حديثة أرهقاه جداً .
تعرَف على قريبات صديقه إياد وأخواته آملاً أن يذخر منهن بعروس أصيلة إلا أن ( الفرنجة ) التي تصطنعنها كانت غبية وكأنهن في حفل إختيار ( من الأجمل والأغبي ؟ ) . كانت المحاولة في الحياة هنا صعبة . فعاد إلى نيويورك ، شعوره بالتهادي و الغربة عن نفسه وكأنه بلا هوية ، فلا هو يتنمي إلي هناك ولا هو بقادر على أن ينتمي إلي هنا أغلق على نفسه حسرته وخيبته آملاً في أن يدله قلبه على هويته الحقيقية !
 كانت جينيفر قد شعرت بما يَعتمِر به و هو يطلب منها مراراً بأن لا تكون مُبتذلة و أن لا ترفع صوتها و تُغطي ردفيها وهي خارجة . كل ذلك أكد لها أنه ليس سوى شرقياً لا غير .
هذه المرة جاء ليبقى لا ليعود .
فكر في بيع المنزل بمبلغ كبير وإستثمار ماله في إنشاء مٌجمع سكني أو فندق عالمي أو منتجع سياحي . وتنازل عن الفكرة لأنه إرث عائلي قَيم ، إختار العمل في شركة عقارية ليمارس وظيفته . جنسيته الأجنبية جعلته يحظى بمرتب موظف أجنبي أي ضعفي راتب موظف سوداني تخرج من جامعة الخرطوم بدرجة الشرف الأولى ؟
وتعرف بها ، رضوى فتاة جميلة ، راقية ومُهندمة ، فرِحت به ، تعاملت معه برقي وأحبته ، كان حينها يبحث عن زوجة فسنواته ال 28 تحتاج تآطير ، لم يكن يحلم بأجمل منها و لا بأرقى منها ، موظفة تعمل معه في نفس الشركة . إلتقيا مراراً في الكافتيريا وأصبح يتصل بها ليستشيرها في طبخة أو في كتاب . إلا أنها أصبحت تُخطِط وهي تخبره بأن هناك محل أثاثات إيطاليا إفتُتِح في شارع كذا و أن هناك صالة أفراح جديدة . وفجأة هَبَت عليه في البيت دون أن تستأذنه ، لتخبره أن الحوائط لو طُليت باللون البرتقالي ستصبح مُفرِحة وأن الباركيه للأرضية أجمل من السيراميك حينها إنتصرت أمريكيته الفظة و هو يخبرها بأنها لم تُعلِمه بأنها ستزوره برُغم أن اليوم هو يوم الجُمعة و أن المسجد خلف بيته و ما الذي سيحدث لو رآها الرجال تدخل وحيدة إلى بيت عازب يسكن لوحده ؟
تركها ليعتمر قبعته البيضاء المطرزة و جلبابه ليذهب لآداء الصلاة . و هو يسألها : هل أخبرت أهلِك أنك قادمة إلى زيارتي و حينما لم ترد أخبرها أن الآذان بدأ و أستأذنها في أن تذهب .
بكت كثيراً و قالت له : أحببتك لأنك أميريكي و لن تكون مُتعصب أو مُعقد ، لأنك عِشت كل عمرك بعيداً عن هنا فمن أين جئت بهذه العقلية القبَلية !
و دون أن يشعر سألها : و بأي صِفة تطلبين مني تغيير الآرائك و اللوحات ؟
مسَحت دمعها بأطراف أصابعها : لأننا سنتزوج !
نفض يديه و قال : و من قال ذلك ؟
قالت : كل تصرفاتك ، و إهتمامك بي و .....
كان يُوقن في قرارة نفِسه بأنها لن تصلُح زوجة له بتاتاً .
كان هذا حاله في الحب ، صار حائراً في التعامل مع كل من حوله ، أولئك الذين تفرِحهم معرفة شخص يملك جواز سفر ( أزرق ) و المُحبين له في الله ، و الحاقدين عليه في إمتلاكه للجنسية الثانية ، المركز الإجتماعي ، إعجاب البنات به و بيته الأنيق في شارع 15 .
إلا أن الجميع لا يعلمون ما الذي يجيش به صدره أو ما يعتمِر في داخله ، لا يدرِكون أنه لا يعرف من هو ؟ فاقِداً هويته التي لا يعرِف ؟
لم يكن هناك بُداً سِوى قِراءة القرآن بتؤدة حتى يهدأ قلبه و يطمئِن ، عله يعرِف من هو ؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق